أما وقد أقرّت الموازنة العامة للسنة الحالية 2018 وإنْ بعدد قليل من الأصوات النيابية 50 نائباً ، فلنأخذ الأمر من ناحيته الإيجابية المتمثلة بانتظام مسار المالية العامة لسنتين متتاليتين بعدما كان المجلس قد أقرّ موازنة العام 2017 بعد نحو 12 سنة على غياب الموازنات، إذ انّ آخر موازنة أقرّها المجلس النيابي في مطلع العام 2006 تعود إلى العام 2005، علماً أنّ اللبنانيين لا يزالون ينتظرون أن يُنجَزَ قطعُ الحسابات للسنوات السابقة، وهو ما التزمت وزارة المالية بإنجازه خلال مدة سنة من تاريخ إقرار موازنة العام 2017 في تشرين الأول الماضي.
إذن، لا يزال أمام وزارة المالية بضعة أشهر حتى تشرين الأول المقبل لكي تُنجزَ ما التزمت به. وعلى أهمية هذا الأمر وضرورة إنجازه بشكل شفاف وواضح في وقته المحدّد المتأخر أصلاً لسنوات ، غير أنّ المسألة الأهمّ تبقى في كيفية التعاطي مع الموازنة العامة للدولة، إذ لا تزال العقلية السائدة هي نفسها رغم تعاقب شخصيات عديدة على وزارة المالية وعلى المسؤولية السياسية بشكل عام. حيث يستمرّ التعاطي مع الموازنة العامة كأنها مجرد دفتر حسابات ندوّن فيه واردات الدولة ونفقاتها بكلّ ما فيها من فذلكات وعجز وديون ما عدا السهو والغلط الذي يختفي في زواريب ودهاليز الهدر والفساد والسمسرات من هنا وهناك .
وتبيّن الأرقام أنّ ثلاثة أبواب فقط تستهلك أكثر من ثلاثة أرباع الموازنة 75 ، وهي: 1 ـ رواتب موظفي القطاع العام، 2 ـ خدمة الدين العام، 3 ـ تغطية العجز في مؤسسة الكهرباء. وإذا زدنا عليها الإنفاق المطلوب لتسيير عجلة الدولة لا يبقى إلا القليل القليل للإنفاق الاستثماري المجدي والذي يشكل المدخل الوحيد لتحريك دورة الاقتصاد الوطني وتحقيق الحدّ الأدنى من النمو والتنمية.
هذا هو واقع الحال، وليس المطلوب صنع المعجزات لتغييره، ولكن أيضاً لا يمكن الاستمرار في العيش مع الأوهام، بل تجديد هذه الأوهام التي سبق للبنانيين أن عايشوها وخبروا نتائجها جيداً. ولذلك لم يعد جائزاً الاكتفاء بإطلاق الشعارات الرنانة، خاصة أننا في موسم انتخابات وماذا في مثل هذا الموسم غير الشعارات الرنانة، مثل القول إنّ مؤتمر «باريس 4» سيؤمّن أكثر من 900 ألف فرصة عمل! فهل هي زلة لسان؟ وهل هناك لبناني واحد لا يزال يصدّق مثل هذا الكلام، أياً تكن ميوله السياسية؟
ليس المطلوب كما قلنا صنع المعجزات، بل هناك إمكانية للقيام بخطوات قد نراها صغيرة ولكنها مؤثرة جداً بنتائجها، وهنا نقول على سبيل المثال لا الحصر إنّ الدين العام بلغ أكثر من ثمانين مليار دولار، وهناك تقديرات بأنه أكثر من ذلك، فإذا اجتهدنا وسعينا مع الدائنين لتتخفيض خدمة الدين العام بنسبة 1 في المئة فقط، وهو أمر ليس صعباً على الإطلاق، لأنّ لبنان هو في موقع القوّة، وللدائنين مصلحة في مساعدته حتى تبقى له القدرة على سداد ديونه وخدمتها. لذلك سوف يتجاوبون بالتأكيد مع مطلبه وعندها نكون قد وفّرنا بين 800 و900 مليون دولار سنوياً يمكن إضافتها إلى الإنفاق الاستماري المجدي الذي يؤدّي بدوره إلى زيادة النمو بنسبة لا بأس بها.
هذا مثال واحد، وهناك الكثير من الخطوات المماثلة التي قد تعتبر صغيرة ولكن لها الفعالية الكبيرة من حيث النتائج، خاصة أنّ هناك في الموازنة أبواب كثيرة يمكن الاستغناء عنها مثل بند التجهيزات المكتبية والأثاث الموجود في موازنة كلّ وزارة وإدارة عامة، والذي يتكرّر سنوياً في حين أنّ الذين يتردّدون إلى الوزارات والإدارات العامة يعرفون أنّ معظمها أثاثه قديم وكذلك التجهيزات المكتبية وأجهزة الكومبيوتر وما إلى ذلك… إذن أين تذهب تلك الموازنات المخصّصة لتحديث وتجديد الأثاث والتجهيزات؟
طبعاً يمكن الاسترسال في تعداد الأمثلة المشابهة، ولكن المقصود من كلّ ذلك الدلالة على أنّ هناك قدرة على جعل الموازنة العامة أكثر من مجرد دفتر حسابات، بمعنى أن تكون خطة اقتصادية ومالية متكاملة كما هي الموازنات في دول العالم…
وإذا كان الاستعجال سببه الرغبة في استباق مؤتمر «باريس 4» الذي يُعقد بعد أيام، والقول إنّ لبنان عاد إلى السكة الصحيحة من حيث انتظام إدارة المال العام، فهذا جيد جداً، ولكن ما هو مطروح في المؤتمر قد يكون أكبر من قدرة لبنان على التحمّل… ومن الأفضل التأنّي وإعادة النظر في ملفاتنا وعدم التسرّع في الاستدانة من جديد وتحميل الخزينة وبالتالي المواطنين والاقتصاد الوطني أعباء إضافية كبيرة، لأنّ الاستدانة اليوم سوف ترتّب غداً زيادة في خدمة الدين التي تحتاج بدورها إلى مداخيل جديدة لسدادها… وهكذا نكون غرقنا أكثر فأكثر في دوامة الحلقة المفرغة نفسها… دين ثم فوائد ثم ضرائب…!